سورة النساء - تفسير التفسير القرآني للقرآن

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (النساء)


        


{وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَبِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى وَالْجارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالاً فَخُوراً (36) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (37) وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً فَساءَ قَرِيناً (38) وَما ذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيماً (39)}.
التفسير:
الآيات السابقة كانت حديثا إلى الناس، فيما يتصل بذات أنفسهم، من شئون المال، والزواج، وما يقع بين الناس من ظلم وعدوان، حين تتعارض مصالحهم، وتختلف آراؤهم، وأرزاقهم.. فيكون فيهم الغنىّ والفقير، ومن يملك الكثير مما يتجاوز حدود حاجته، ومن يملك القليل الذي لا يشبع جوعته.
وإذ لفت اللّه النّاس في تلك الآيات إلى الطريق القويم، الذي ينبغى أن يلتزموه، ويقيموا خطوهم عليه، حتى لا يقع بينهم صدام، ينتهى إلى تقطيع الأرحام، وسفك الدماء- فكان من تدبير الحكيم العليم، أن يدعوهم إليه، وأن يستحثهم إلى عبادته وطاعته. حتى تمتلىء قلوبهم إيمانا به، وخشية له، وتوقيرا لأوامره ونواهيه، وبهذا يكون لما وصّاهم به سبحانه من البر بأنفسهم، والعدل فيما بينهم، والتراحم بين أغنيائهم وفقرائهم، وأقويائهم وضعفائهم- يكون لهذا مكانه من قلوبهم، وأثره في تصرفاتهم، وفى سلامة نوازعهم، واستقامة سلوكهم.
{وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً}.
فإذا أخذ العبد نفسه بطاعة اللّه ووجه إليه وجهه خالصا، قانتا، خاشعا، غير ملتفت إلى سواه، ولا ناظر إلى غيره- وجد لخشية اللّه سطوة تملك عليه أهواءه، ولجلاله خشية يستحى معها أن يصرف وجهه عن اللّه، ويسلم يده لنزواته ونزعاته.. وبهذا يجد لوصايا اللّه مكانا متمكنا من نفسه، يعصمه من أن ينحرف، أو يزلّ.
والدعوة إلى عبادة اللّه دعوة عامة، تتوجه إلى عباده جميعا،. فهم جميعا مدعوّون إلى رحابه، لينالوا رضاه، وينعموا برحمته.. وليس لأحد أن يحجز أحدا عن اللّه، أو يصدّه عن سبيله، بحجّة أن دعوة اللّه قاصرة عليه، أو على قومه، وبنى جنسه.. فذلك عدوان على اللّه، وكفر به، فوق أنه عدوان على الناس ومصادرة لحق مشروع لهم.
فالطريق إلى اللّه مفتوح لكل إنسان، يفتح قلبه للّه، ويوجه وجهه إليه.
وأنه إذا كان لأحد أن يحول بين إنسان وبين غاياته التي يتغيّاها في الحياة، أو أن يسلبه شيئا ملكه واستحوذ عليه، فليس في مستطاع أحد أن يحول بين الإنسان وربّه، أو أن يمدّ يده إلى الإيمان الذي سكن قلبه فينتزعه منه، فذلك لا سلطان لأحد عليه، وإنما أمر ذلك كله إلى الإنسان نفسه، وإلى ما في قلبه من إيمان.. إن شاء أمسك هذا الإيمان، وإن شاء أرسله! فإذا آمن الإنسان باللّه، وتعبّد للّه.. كان عبدا ربّانيا، يجيب دعوته، ويمتثل أمره.
وفى قوله تعالى: {وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً} أمر من أمر اللّه، ووصاة من وصاياه، بل هو الأمر الأول، والوصاة الأولى، بعد الأمر بالإيمان به، والوصاة بعبادته وطاعته.. فالإحسان إلى الوالدين حقّ من حقوقهما على المولودين، إذ كان لهما أثر في وجود الأبناء، وفى البلوغ بهم مبلغ الحياة.
وقوله سبحانه: {وَبِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى وَالْجارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ}.
يبين به اللّه سبحانه أصحاب الحقوق الواجبة على الإنسان نحوهم، إمّا لصلة قرابة تجمعهم إليه، وتجعلهم بعضا منه، أو تجعله بعضا منهم.. وإما لصلة إنسانية عامة، تلك الصلة التي تقوم على أساس أن الفرد عضو في الجسد الاجتماعى كلّه، وأن كل عضو سليم في هذا الجسد من واجبه أن يحمل بعض أعباء الأعضاء المريضة فيه، شأن الجسد حين تضعف فيه حاسة، أو تعجز عن العمل، فتتولى أقرب الحواس إليها، وأشكلها بها، أداء وظيفتها بوجه أو بآخر حتى يستقيم للجسد أمره.
فذوو القربى.. هم من الإنسان وهو منهم.. ولهم على الإنسان أكثر من حق.. حق القرابة، وحق الإنسانية.
واليتامى والمساكين.. أعضاء ضعيفة في الجسد الاجتماعى.. ولهم على الإنسان حق، هو حقّ بعض الجسد على بعض.
والجار ذو القربى، له حق القرابة، وحق الجوار، وحق الإنسان على الإنسان.
والجار الجنب له حقان: حق الجوار، وحق الإنسانية.
والصاحب بالجنب، هو الصديق المرافق، الذي يجده الإنسان إلى جنبه في شدته ورخائه.. وهذا له حق الصداقة مع حق الإنسانية.
وابن السبيل.. هو المسافر الذي يقطع الطريق بغير مركب أو زاد.
وسمّى ابن السبيل، وأضيف إليه، لأنه لا أهل له، ولا رفيق، غير الطريق الذي ركبه في سفره.. فهو غريب، ضعيف.. له حق الضعيف على القوى، وحق الإنسان على الإنسان!.
وما ملكت أيمانكم.. وهم الأرقاء، الذين ملك غيرهم وجودهم كله، فهم أضعف الضعفاء.. وحقهم على أصحابهم أولا، ثم حقهم على المجتمع كله ثانيا.
فهؤلاء جميعا هم أصحاب حقوق على الإنسانية كلها.. يتقاضونها أولا ممن هم أقرب إليهم، وأولى بهم، من أهل، وأقارب، وجيران، وأصحاب، وسادة.
فكل إنسان في المجتمع الإنسانى مدعوّ- في شريعة الإسلام- إلى أداء حقوق لمجتمعه، يبدأ فيها بأبويه، ثم بذوي قرابته، ثم باليتامى والمساكين، ثم بالجيران من ذوى قرابته، ثم بالجيران ممن لا قرابة لهم، ثم الأصدقاء، ثم أبناء السبيل، ثم الأرقاء.. فإن فضل عنده فضل من عطاء، فليضعه حيث يشاء، فيما ينفع الناس ويعينهم.
وفى قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالًا فَخُوراً} تعقيب على هذه الدعوة إلى البر والإحسان، والتواصل بين الناس.
وفى هذا التعقيب إشارة إلى أنه لا يتقبل هذه الدعوة الكريمة، ولا يفى بها إلّا من استشعر قلبه الأخوة، فوصل نفسه بالناس، واختلط بهم، وتحسس مواقع الآلام، ومواطن العلل فيهم.. وذلك لا يكون إلا من إنسان آمن بأنه ابن هذه الإنسانية، وأن الناس جميعا شركاء له في هذا النسب.
أما من عزل نفسه عن الناس، وغرّه بذاته الغرور، وملكه العجب، واستبدّ به الكبر، بما آتاه اللّه، من مال، أو صحة، أو علم، فرأى أنه من عالم غير عالم الناس، ومن طينة غير طينتهم- فإنه لا يأخذ منهم ولا يعطى، ولا يمدّ إلى أحد يدا، ولا يقبل أن يمد إليه أحد يدا.. إن المسافة بينهم وبينه بعيدة.. إنهم أرض وهو سماء.. وأين الأرض وأين السماء؟
ولهذا كان قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالًا فَخُوراً} كاشفا عن هذا الصنف المتعالي المتغطرس من الناس، ذلك الصنف الذي لو وجد إنسانا تتعلق حياته على قطرة ماء لما التفت إليه، ولما مد يده نحوه بتلك القطرة، ولو كانت الأنهار تجرى من تحته! وفى هذا التعقيب إشارة إلى اليهود، إذ هم الذين عزلوا أنفسهم عن المجتمع الإنسانى، وعدّوا أنفسهم خلقا آخر غير خلق الناس- ونسبوا أنفسهم إلى اللّه نسبة لا يشاركهم فيها غيرهم، فقالوا: نحن أبناء اللّه وأحباؤه، وسمّوا شعبهم شعب اللّه المختار! وفى قوله تعالى: {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} ما يكشف عن تلك الإشارة التي ضمّت عليها كلمات اللّه في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالًا فَخُوراً}.
فهؤلاء المختالون الفخورون، الذين يبغضهم اللّه، هم الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل.
فقد بخل اليهود بما عندهم من علم الكتاب، وضنّوا به، فلم يقم منهم داعية يدعو إلى دين اللّه، ويبشر به بين العباد، من غير اليهود.. فكتموا دين اللّه، وبخلوا به، مع أنه يزداد على الإنفاق والإعطاء نورا إلى نور، وألقا إلى ألق! بل وأكثر من هذا، فإنهم تواصوا بالبخل، ودعا بعضهم بعضا إليه.
وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [76: البقرة].
وكما بخلوا بما عندهم من علم الكتاب، بخلوا بما في أيديهم من مال، بل إن بخلهم بالمال كان مضرب المثل في الدنيا كلها، إذ لا يعرف شعب من الشعوب استبدّ به هذا الداء مثل اليهود.
وفى قوله تعالى: {يَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} إشارة صريحة بعد تلك الإشارتين المضمرتين إلى اليهود، وما بخلوا به.. فقد كتموا ما أتاهم اللّه من فضله من كتاب، فيه هدى ورحمة للعالمين.. ولم يقفوا عند هذا، بل كتموا الدلائل والبشريات التي عرفوها في كتابهم هذا، عن النبي محمد، وقد كانت تلك الدلائل وهذه البشريات مصباحا يضىء لهم الطريق إلى الدّين الجديد، قبل أن تلوح شعاعات فجره الوليد.. ولكنهم آثروا أن يمسكوا هذه الدلائل بين أيديهم، وأن يكتموا النّاس أمرها، وأن يترصّدوا مطلع النبيّ الجديد، ليسبقوا إليه، ويستحوزوا عليه، ويستخلصوه لهم من دون الناس.
فكان أن حرمهم اللّه هذا الخير، وأورد الناس جميعا موارده. غير اليهود!!
وهكذا كان الجزاء عدلا وفاقا. مكروا فمكر اللّه بهم، وأرادوا حرمان الناس، فحرمهم اللّه.
وفى قوله تعالى: {وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً} خطاب عام بالجزاء الذي سيلقاه كل كافر، وهو العذاب المهين، وأول من يقع عليه هذا الجزاء هم اليهود، الذين كفروا بمحمد وبما في يده من كتاب اللّه الذي في أيديهم خبره.
فهم المواجهون بهذا الخطاب، الذي يتناولهم أولا، ويمتد إلى غيرهم من الكافرين ثانيا.
وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً فَساءَ قَرِيناً}.
هو عطف على قوله تعالى: {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ}.
فهذا الصنف من الناس كصنف اليهود الذين غضب اللّه عليهم وأعدّ لهم عذابا مهينا.
فإذا كان اليهود قد بخلوا أثرة وشحّا، فهؤلاء أنفقوا مباهاة ورياء.
وإذا كان اليهود كفروا باللّه واليوم الآخر عن علم، فهؤلاء كفروا باللّه واليوم الآخر عن كبر وحمق.
وهؤلاء وأولئك قد استقادوا للشيطان ووضعوا أيديهم في يده، وصحبوه إلى حيث يريد، ولن يريد لهم الشيطان إلا الضلال، ولن يوقعهم إلا في الهلاك.
وقوله تعالى: {وَما ذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيماً} هو استنكار لموقفهم الذي وقفوه من الهدى والخير، ودعوة مجدّدة لهم إلى الإيمان باللّه واليوم الآخر والإنفاق مما رزقهم اللّه.. فاللّه من ورائهم محيط، يحصى عليهم أعمالهم من خير أو شر، ويجزيهم على الخير خيرا وزيادة، وبالشر شرا، ويعفو عن كثير.


{إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً (40) فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً (41) يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً (42)}.
التفسير:
هذا حكم اللّه بين عباده، لا يظلمهم مثقال ذرة، بل يوفّون حسابهم عليها، فإن كانت سيئة حوسبوا بقدرها، وإن كانت حسنة جوزوا بأضعافها.. فهذا من فضل اللّه ورحمته بعباده، السيئة سيئة، والحسنة حسنات.
عشرة أو عشرات، أو مئات.. واللّه يضاعف لمن يشاء: {وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً}.
وفى قوله تعالى: {فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً} عرض ليوم القيامة، وما يلقى الناس فيه، جزاء ما عملوا من خير أو شر.
والشهيد: هو الشاهد الذي تطلب شهادته في أمر هو عليم به.
والأنبياء هم شهداء على أقوامهم، فيما كان منهم من قبول أو إعراض- والنبي الكريم هو شهيد على أمته.. يؤدى الشهادة فيهم بين يدى اللّه، ثم يكون حكم اللّه فيهم، بمقتضى ما شهد به النبىّ، والذي لا يشهد إلا بالحق الذي يعلمه اللّه.
وفى هذا اليوم، الذي يدعى فيه الشهداء، وتسمع فيه شهادتهم.. يخزى الكافرون، ويبلسون، بما قدمت أيديهم، ويودّون لو كانوا ترابا في التراب.. ولكن لا مفر لهم، وقد أحاطت بهم خطيئاتهم، وجاءت شهادة الرسل مسجلة عليهم آثامهم، ثم استنطقهم اللّه فنطقوا، وشهدت عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون.


{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلاَّ عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً (43)}.
التفسير:
الصلاة وشارب الخمر:
يكاد يجمع المفسّرون والفقهاء، على أن قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ} من المنسوخ، وأن بقية الآية محكم لم ينسخ! ونحن على رأينا من أنه ليس في القرآن نسخ، وأن كلّ آية متلوّة فيه، عاملة غير معطلة.
ولكن ماذا يقول القائلون بالنسخ في آية متماسكة النظم، متلاحمة البناء كهذه الآية: ينسخ بعضها، ويبقى بعضها من غير نسخ؟
ثم ماذا يقولون في فعل مسلط على أمرين بحكم واحد، ثم يسقط أحد الأمرين ويبقى الآخر؟ فأية قوة خارقة تدخل على هذا الفعل، فتفلت من سلطانه أحد الأمرين وتستبقى الآخر..؟
استمع إلى قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ.. وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ}.
فإن النهى عن مقاربة الصلاة تسلّط على حالين، حال السكر، وحال الجنابة.. وقد نصب قوله تعالى: {وَلا جُنُباً} بالعطف على قوله سبحانه: {وَأَنْتُمْ سُكارى} الذي هو جملة حالية في محل نصب.
فكيف ينسخ النهى عن مقاربة الصلاة حال السكر، ولا ينسخ النهى عن مقاربتها حال الجنابة، والفعل مسلط عليهما معا؟
وندع هذا، ففيه مجال للقول والجدل.
ونسأل: هل إذا أمر المسلمون بأمر إلهى، استجابوا له، واستقاموا عليه والتزموه؟.
المفروض هو هذا، والمطلوب هو هذا أيضا.
ولكن المفروض شىء، والواقع شىء.. والمطلوب شىء، والوفاء به شيء آخر.
إن من شأن الناس ألا يكونوا على حال واحدة أبدا.. ففيهم المطيع، وفيهم العاصي، ومنهم المستقيم، وكثير منهم المعوجّ.. {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ} [2: التغابن].
{وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [103: يوسف].
هكذا هم الناس.. بل هكذا هو الإنسان.. يستقيم وينحرف، ويطيع ويعصى. ومن أجل هذا قام شرع اللّه، وقامت حدود اللّه، وكان الثواب، وكان العقاب! فالمسلمون إذا نهوا عن الخمر، مثلا، كان واجبا عليهم أن يمتثلوا أمر اللّه، وأن ينتهوا عما نهوا عنه.. ولكن الواجب- كما قلنا- شىء، والوفاء به شيء آخر.
وقد شرب كثير من المسلمين الخمر، حتى في الصدر الأول للإسلام، وفى عهد الخلافة الراشدة.. وقصة أبى محجن الثقفي المجاهد في جيش سعد بن أبى وقاص معروفة.. فقد ضبط متلبسا بشربها، وأقام عليه سعد الحدّ أكثر من مرة.. ثم حبسه، ووضع القيد في رجله.. ثم التحم المسلمون مع الروم في معركة كاد يهزم فيها المسلمون، وعند ما رأى أبو محجن من محبسه أن الدائرة ستدور على المسلمين، احتال حتى خرج من محبسه وفك من قيوده، وركب فرس سعد، وقاتل قتالا مستبسلا عرفه له كل من شهد المعركة، وإن لم يعرف شخصه.. وانتهت الموقعة بانتصار المسلمين، كما انتهت بانتهاء أبى محجن عن شرب الخمر!! والأمر لا يحتاج في هذا إلى شواهد.. فإن هذا المنكر- أي الخمر- لم يعتزله المسلمون جميعا، بل كان منهم في كل عصر، وفى كل بلد، من يشرب الخمر وتأخذه سكرتها، ويغشاه خمارها، حتى لا يكاد يفيق! ونعم، الخمر كبيرة، بل وكبيرة الكبائر.. آثم من يلمّ بها، أو يعاقرها! هذا حكم لا خلاف فيه بين المسلمين.
ولكن ما حكم من يشرب الخمر من المسلمين، ثم يريد أن يؤدّى الصلاة؟
أتحرم عليه الصلاة، ويحال بينه وبينها!
إن القول بنسخ الآية- أو صدر الآية- لا يسقط عنه فريضة الصلاة، ولا يحول بينه وبينها.
فالآية الناسخة لهذه الآية هى قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [90- 91: المائدة]- هذا النسخ للآية السابقة- إذا أخذ به- لا يحول بين المسلم الذي شرب الخمر وبين أن يؤدى الصلاة.
فالخمر جريمة، والصلاة قربة للّه.. تلك سيئة، وهذه حسنة، ولا يمنع اقتراف السيئات من فعل الحسنات، واللّه سبحانه وتعالى يقول: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ} [114: هود].
وكيف يحال بين المسلم العاصي، وبين أن يفعل القربات، التي تكفّر سيئاته، وتصحح إيمانه؟
وكيف بالصلاة، وهى عماد الإسلام وملاك أمره؟
وأنّى للمسلم العاصي أن يدخل مداخل الطاعة، ويحسب في الطائعين، بغير الصلاة، التي يقول اللّه سبحانه وتعالى فيها: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ} [45: العنكبوت]؟
وإذ ننظر في قوله سبحانه: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ.. إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ} نجد أنه دعوة عامة للمسلمين جميعا أن يقيموا الصلاة. وأن حظ المسيئين منها أكثر من حظ المحسنين.. إذ كان المحسنون بإحسانهم، على الصحة والسلامة، لا تزيدهم الصلاة إلا إيمانا على إيمان، وهدى إلى هدى.. أما المسيئون.. فهم مرضى.. أصحاب آفات وعلل، ومرتكبو فواحش وآثام.
فهم أشد الناس حاجة إلى الدواء الذي يذهب بدائهم هذا، ويطهرهم من الآثام التي أحاطت بهم.. وليس غير الصلاة، مطهرة للآثام، مغفرة للذنوب، مدعاة إلى الاستقامة والتقوى: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ}.
إن الآية الناسخة إذن لا تنهى المسلم العاصي عن إتيان الصلاة، إذا كان مبتلى بشرب الخمر.
ولكن كيف يؤدّى الصلاة وهو معاقر الخمر، مصاب بخمارها لا يدرى ما يقول؟
هنا يأتى قوله تعالى: {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ} وهنا تعطى الآية حكمها في هذه الحال.. وبهذا تكون عاملة غير منسوخة، فإن القول بنسخها- حكما لا تلاوة- يدعو إلى القول بأن شارب الخمر لا يصلى أبدا، سواء أكان يدرى ما يقول، أم لا يدرى.. وهذا مالا يقول به أحد! ونسأل:
ما داعية القول بنسخ هذه الآية؟ وما الحكمة في ضرب بعض القرآن ببعض؟ خاصة إذا كانت الآية تعطى حكما مطلوبا، لا نجده في الآية التي يقال إنها ناسخة لها؟
إذن فإن ذلك القول بالنسخ هنا لا مفهوم له أبدا.. بل إنه ليبدو لنا أشبه بالقتل العمد لنفس حرم اللّه قتلها!! فالمسلم.. الذي يتأثّم بشرب الخمر.. منهى عن إتيان الصلاة حتى يفيق إفاقة تامة من السكر، ليعلم ما يقول، ولينتفع بهذا الموقف الذي يقفه بين يدى اللّه.
وهذا الانتقال السريع من الإثم إلى الطاعة، والانخلاع من متابعة الشيطان إلى ملاقاة اللّه- هذا الانتقال من شأنه أن يحدث في النفس هزّة مزلزلة، وأن يثير في كيان الإنسان انقلابا عاصفا، حين يرى تلك المفارقة العجيبة البعيدة بين الموقفين اللذين وقفهما، والذي لا يبعد أحدهما عن الآخر غير خطوة.. إنه في هذا الموقف- أكثر من غيره- يدرك فرق ما بين الضلال والهدى، والظلام والنور، ومتابعة الشيطان، ولقاء وجه الرحمن.
إن هذا الموقف جدير به أن يحمل الإنسان- في قوة- على مخالفة هواه، والرجوع إلى اللّه، رجوعا لا يلتفت بعده إلى وراء أبدا!! قوله تعالى: {وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} هو عطف على قوله سبحانه: {وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ} وهما- أي المتعاطفان- واقعان تحت حكم النهى في قوله تعالى {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ..}.
فكما لا يقرب شارب الخمر الصلاة حتى يفيق ويعلم ما يقول، كذلك لا يقرب الجنب الصلاة حتى يتطهر بالاغتسال..! أي لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون، ولا تقربوها وأنتم جنب حتى تغتسلوا.
إن شأن الصلاة عظيم، وأمرها جليل، وإذ كان هذا شأنها وذلك أمرها، فإنه يجب ألا يدخل حماها، ولا يتلبّس بها إلّا من كان أهلا لأن يلقاها، وبأنس بها، ويتجاوب معها، ويستشعر جلال اللّه على سنا أضوائها.. والمخمور غير أهل لهذا اللقاء.. حتى يفيق ويتخلص خماره، ويعود إليه عازب عقله ويستردّ إنسانيته التي افتقدها مع سكرته- والجنب غير أهل هذا اللقاء أيضا.. حتى يغتسل ويتطهر، وينزع عنه بهذا الاغتسال ما تلبّس به من مشاعر الحيوانية، ليعود إنسانا، كما كان من قبل أن يتلبس بما تلبس به! والجنب، والجنابة: كناية عن مباشرة النساء.
وقوله تعالى: {إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ} هو استثناء من الحكم الوارد على الجنب بألا يقرب الصّلاة حتى يغتسل.. فإن كان عابر سبيل، لا يجد ماء.
فله حكم غير هذا الحكم، ستشير إليه الآية فيما بعد.
قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ}.
هذا استثناء من حكم عام، وهو الوضوء للصلاة قبل الدخول في الصلاة.
والمستثنون من هذا الحكم هم أصحاب معاذير: افتضت رحمة اللّه بهم التخفيف عنهم، وأخذهم بحكم خاص، غير هذا الحكم العام الذي يجرى على من لا عذر لهم.
وأصحاب المعاذير هنا هم:
1- من كان مريضا.. أي المريض الذي يعجزه مرضه عن استعمال الماء.
2- أو من كان على سفر.. سواء أكان السفر طويلا أم قصيرا، مادام قد بعد عن أهله وبلده.
3- من انتقض وضوؤه، بخروج شيء من أحد السبيلين.. ولو كان صحيحا سليما- إذا لم يجد الماء، أو وجده وأضرّ به استعماله، وهو المشار إليه بقوله تعالى: {أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ}.
والغائط هو المكان المنخفض، وهو كناية عن قضاء الحاجة، حيث تقضى في مكان لا يقع تحت أعين الناس.
4- من كان جنبا.. ولو كان سليما معافى لا يضره استعمال الماء، ولكنه لا يجده.
فهؤلاء.. إذا لم يجدوا الماء أو وجدوه وأضرّ بهم استعماله، كان التيمم بديلا لهم من الماء، في أداء الصلاة.
فالمريض، الذي يمنعه مرضه من استعمال الماء، له التيمم مع وجود الماء، وكذلك شأن المسافر، إذا كان معه من الماء مالا يفيض عن حاجته في طعامه وشرابه.
والتيمم معناه القصد، والاتجاه، والصعيد ما ارتفع من الأرض، وصعد.
والمراد بقوله تعالى: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً} اختيار مكان طاهر من الأرض، ليمسح منه على الوجه واليدين، قبل الدخول في الصلاة.
والإشارة إلى الصعيد، لمظنّة أنه بمنأى من الخبث والقذر، حيث يعلو عن استعمال الناس، والتلوث بالقذارات.
فليس المراد مجرّد العلوّ لاختيار المكان الذي يمسح منه، وإنما القصد أن يكون طيبا طاهرا، ولهذا جاء قوله تعالى: {صَعِيداً طَيِّباً} قيدا للصفة التي يكون عليها هذا الصعيد، وهو أن يكون طيبا، إذ قد يكون صعيدا، ولكنه ملوث بالخبث والقذر.
وهنا أمر نحبّ أن يشير إليه، وهو ما في قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا} حيث أطلق الجنابة، ولم يقيدها. إن كانت عن حلال أو حرام! وهذا يعنى أن الزاني جنب، وأنه حين يريد الصلاة ينبغى أن يتطهر بالاغتسال، أو التيمم، حسب الحكم الذي يقتضيه حاله، شأنه في ذلك شأن الجنب الذي واقع زوجه! أما جريمة الزنا التي اقترفها، فلها حكمها الخاص بها.. ولا متعلق لها بفريضة الصلاة المفروضة عليه.
نقول هذا، لنشير به إلى ما سبق أن قررناه في شأن شارب الخمر، الذي إذا أراد أن يؤدى فريضة الصلاة، فإن له أن يؤديها، ولكن بعد أن. يفيق من سكره ويعلم ما يقول.. تماما، كما يغتسل الزاني ويتطهر من الجنابة قبل الدخول في الصلاة.
وفى قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً} نجد دعوة كريمة، من رب كريم، عفوّ غفور، يدعو هؤلاء المذنبين إليه.. من شاربى خمر، أو زناة، ليدخلوا في رحابه، وليرفعوا وجوههم إليه وليخبتوا له، ساجدين راكعين.
عسى اللّه أن يتوب عليهم، ويغفر لهم {إِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً}.
وما أوسع رحمة اللّه، وما أعظم فضله، إذ بسط يده بالعفو وبالمغفرة، قبل أن يسعى إليها الساعون، ويطلبها العصاة المذنبون.
هذا، ونودّ أن نلتقى بالآية الكريمة لقاء خاصّا، نستشفّ منه بعض أسرارها التي تلوّح بها من بعيد، ليكون فيها تبصرة وذكرى لأولى الألباب! ففى قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} ما يسأل عنه، وهو هذا القيد الوارد على إباحة التيمم، عند عدم وجود الماء- هل هو منسحب إلى جميع أصحاب هذه الأعذار.. وهم المرضى، ومن كان على سفر، ومن جاء من الغائط، ومن لامس النساء؟
وكلّا.. فإن المريض سواء وجد الماء أو لم يجده، قد رخّص له في التيمم، وقام مرضه في دفع الحرج عنه مقام عدم وجود الماء.. وإلا لما كان لذكره هنا وجه.. فإن عدم وجود الماء هو عذر للصحيح أيضا، فلا وضوء عليه الصلاة، بل يجزيه التيمم، الذي هو طهارة له، والتي هى شرط للدخول في الصلاة.
وسؤال آخر، وهو: أيلحق المسافر في الحكم بالمريض، فيباح له التيمم، سواء وجد الماء أم لم يجده، أم أنه يلحق بمن ذكر بعده، وهو من جاء من الغائط أو لامس النساء.. حيث لا يباح لهما التيمم إلا عند فقدان الماء؟ هنا يطالعنا وجه من وجوه الإعجاز القرآنى، نلمحه في ترتيب أصحاب هذه الأعذار المبيحة للتيمم، حيث بدأ بالأقوى عذرا، فمن دونه، وهكذا.
فالمريض.. صاحب عذر واضح في إباحة التيمم له، بحيث لا ينتقض هذا العذر بوجود الماء.
أما المسافر.. فهو على حال دون المريض، ولكنه شبيه بالمريض في بعض ما يحيط به من أحوال.. فهو ضعيف لانقطاعه عن أهله، ولسوء تغذيته، ولمكابدته مشاق السفر.. فهو- والحال كذلك- في حكم المريض، وإن لم يكن مريضا، ولهذا جاء تاليا للمريض في ترتيبه بين أصحاب الأعذار.
وعلى هذا، فإن له أن يأخذ بحكم المريض، فينتفع برخصة التيمم، مع وجود الماء، وهذا هو سرّ ذكره بين أصحاب الأعذار، ليكون السفر عذرا له، كما يكون فقدان الماء عذرا لغير المسافر.. كمن جاء من الغائط أو لامس النساء.
هذا، ولا نستطيع أن نرفع أبصارنا عن هذه الآية الكريمة دون أن نملا العين من هذا النظم العجيب الذي جاءت عليه، وهى تقرر أحكاما، وتصدر تشريعا.. الأمر الذي لا يلتفت معه كثيرا إلى الصياغة البلاغية، التي كثيرا ما تجوز على التحديد والتقنين المطلوبين لتقرير الأحكام.. ولكنه القرآن الكريم، وكلام ربّ العالمين، يجمع الحسن كلّه، ويستوفى الكمال جميعه.
والذي شدّ أبصارنا وبصائرنا من نظم هذه الآية الكريمة هوقوله تعالى: {أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ} فقد جاء هذا المقطع من الآية الكريمة مخالفا لنسق النظم الذي جاءت عليه الآية، فيما سبقه، أو لحقه منها- فالآية تخاطب المؤمنين في صيغة الجمع.. {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً..}.
وينفرد هذا المقطع: {أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ} بأنه حديث عن الغائب المفرد.. ولو جاء على نسق النظم في الآية كلها لجاء هكذا: أو جئتم من الغائط.
فما سرّ هذا؟
وأكاد أنصرف عن بيان هذا السرّ، الذي يكاد لا يكون سرّا، بعد أن يواجهه المقطع المعدول عنه، والذي كان من المتوقع أن يحلّ محلّه.. هكذا: {أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ} أو جئتم من الغائط.
ولكن لا بأس من أن نكشف هذا السرّ بعد أن انكشف، إذ لا تزال وراءه أسرار كثيرة لم تنكشف لنا، ولعلها تنكشف لمن يطلبها ويمعن النظر فيها.
ففى قوله تعالى: {أَوْ جاءَ أَحَدٌ} تنكير وإخفاء وستر لهذا الذي جاء من الغائط، بعد أن كان عريانا، يباشر عملا يحبّ أن يستره ولا يطلع أحد عليه.
ثم هو من جهة أخرى احترام لحياء المخاطبين، حتى لكأنهم لا يفعلون هذا الفعل الذي هو ضرورة ملزمة لكل حىّ.. والذي هو عمل يأتيه كلّ إنسان.. ولكنه أدب الحديث، الذي يؤدّبنا اللّه سبحانه وتعالى به، ويطلعنا من كلماته على ما لم تعرف الحياة في أعلى مستوياتها من أدب كهذا الأدب السماوي الكريم!

5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12